دراسات
إسلامية
حكم الجماعة في الصلاة
(1/2)
بقلم : د. عبد اللّه محمد سعيد
لقد حثّ الإسلام على حضور الجماعة ورغّب فيها بمزيد من
الأجر والثواب الذي تزيد به صلاة الجماعة على صلاة المنفرد؛ وذلك لما لصلاة
الجماعة من الفوائد الجليلة؛ فهي مظهر من مظاهر وحدة المسلمين وتعاونهم على البرّ
والتقوى.
والمحافظة على الجماعة تعني المزيد من
المحافظة على الصلاة ومراعاة أدائها في أوقاتها وفي ذلك الحفاظ على ركن هامّ من
أركان الإسلام ولقد اختلفت مذاهب الفقهاء في حكم صلاة الجماعة.
فمنهم من قال: إنها واجبة، وهم فقهاء
الحنابلة وأهل الظاهر.
ومنهم من قال: إنها تتردد بين الوجوب
العيني والوجوب الكفائي وإنها سنة مؤكدة، وهم فقهاء الشافعية.
ومنهم من قال: إنها سنة مؤكدة وهم فقهاء
المالكية والحنفية.
سبب اختلاف الققهاء:
وسبب اختلاف الفقهاء هو تعارض مفهوم الآثار
في تلك المسألة، وذلك كما يقول ابن رشد(1) إن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجةً، أو بسبع وعشرين درجةً)
يعني أن الصلاة في الجماعة من جنس المندوب إليه وكأنها كمال زائد على الصلاة
الواجبة؛ فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الجماعة أكمل من صلاة المنفرد، والكمال إنما
هو شيء زائد على الإجزاء.
فمن قال: إن الجماعة سنة مؤكدة أخذ بهذا
الحديث واستدل به بهذا المفهوم.
وأما من قال: إن الجماعة واجبة فقد اعتمد
على أدلة أخرى، منها حديث تحريق بيوت الذين يتخلفون عن الجماعة، وحديث الأعمى الذي
استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وطلب أن يرخص له في عدم حضور الجماعة لأنه يجد مشقةً في
ذلك فلم يرخص له.
وعلى ذلك فقد سلك كل واحد من الفريقين مسلك
الجمع بين الأحاديث بتأويل حديث مخالفه وصرفه إلى الظاهر الذي تمسك به. وهذا هو
تفصيل المذاهب في تلك المسألة.
1 – مذهب
الجمهور :
ذهب جمهور الفقهاء، وهم:
المالكية والحنفية والرأى المعتمد عند الشافعية، إلى أن الجماعة سنة مؤكدة.
ويكاد مذهب الجمهور يتفق أيضًا على أن
الجماعة سنة مؤكدة على العموم إذا لم يكن هناك تهاون وإنكار لها؛ فإذا حدث تهاون
جماعي من أهل بلد أدى إلى ترك الجماعة وتعطيل شعائرها قوتل أهل تلك البلدة، ويحدث
مثل ذلك أيضًا عند إنكار(2) صلاة الجماعة.
2 – مذهب
الحنابلة :
ذهب فقهاء الحنابلة إلى أن الجماعة واجبة
وجوبًا عينيًا، بمعنى أنه يجب على كل مسلم أن يؤدي الصلاة في جماعة.
ولكن الحنابلة مع ذلك يرون أن الجماعة ليست
شرطاً لصحة الصلاة فإنه على ذلك من أدى الصلاة في غير جماعة فإن الصلاة تقع صحيحةً
ويعتبر المصلي منفردًا آثمًا لتركه الجماعة.
هذا فيما عدا الجمعة؛ فإن جميع الفقهاء قد
اتفقوا على أن الجماعة واجبة فيها ولا تصح صلاة الجمعة بدون جماعة.
وبذلك ينقسم الوجوب عند فقهاء الحنابلة إلى
قسمين:
الأول: وجوب لا ينفي صحة الصلاة عند عدمه،
وذلك هو حكم الجماعة في الصلوات الخمس المكتوبات.
الثاني: وجوب تنتفي معه صحة الصلاة، وذلك
كما في صلاة الجمعة؛ حيث لا تصح الجمعة بدون جماعة(3).
3 مذهب أهل
الظاهر :
ذهب أهل الظاهر إلى أن الجماعة واجبة
وجوباً عينيًا، بمعنى أنها فرض عين على من تجب عليه الصلاة، وهي شرط في صحة
الصلاة؛ فلا تصح الصلاة عندهم بدون جماعة(4).
فوجوب الجماعة عند أهل الظاهر يختلف عند
فقهاء الحنابلة؛ حيث إن وجوب الجماعة عند الحنابلة ليس شرطاً في صحة الصلاة، وذلك
بعكس الوجوب عند أهل الظاهر؛ فهو شرط عندهم في صحة الصلاة، قال بهذا المذهب: داؤود
الظاهري، وحكاه عنه النووي في المجموع وفي شرح مسلم.
وقال ابن حزم: ولا تجزيء صلاة
أحد من الرجال إذا كان بحيث يسمع الأذان أن يصليها إلا في المسجد مع الإِمام، فإن
تعمد تركها بغير عذر بطلت صلاته، فإن كان بحيث لايسمع الأذان فرض عليه أن يصلي في
جماعة مع واحد إليه فصاعدًا ولا بد، فإن لم يفعل فلا صلاة له إلا ألا يجد أحدًا
يصليها معه فيجزئه حينئذ إلا من له عذر فيجزئه التخلف عن الجماعة. اهـ(5).
الأدلة
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على أن الجماعة سنة مؤكدة
بما يأتي:
أولاً: 1 – عن عمر رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين
درجةً)(6).
2 – عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل صلاةً الفذ بخمس وعشرين درجةً)(7).
3 – عن أبي هريرة رضي الله
عنه أن رسول الله صلى
الله عيله وسلم قال: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا
وعشرين ضعفًا، وذلك أنه توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا
الصلاة، لم يخط خطوةً إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل
الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم
في صلاة ما انتظر الصلاة)(8).
4 – وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ أو صلاة الرجل وحده، خمسًا وعشرين
صلاةً)(9).
وجه الدلالة من هذه الأحاديث:
كما يقول جمهور الفقهاء من المالكية
والحنفية والراجع عند الشافعية، أن هذه الأحاديث تبين أن صلاة الجماعة أفضل من
الصلاة في البيت والسوق، ولكن الصلاة في غير جماعة صحيحة ومنعقدة؛ فالأحاديث تدل
فقط على زيادة الثواب والأجر لمن يصلي في جماعة.
قال الشوكاني: وقد استدل بالحديثين (حديث
أبي هريرة وحديث ابن عمر) القائلون بأن صلاة الجماعة غير واجبة... ثم قال: (لأن
صيغة أفضل كما في بعض ألفاظ حديث ابن عمر تدل على الاشتراك في أصل الفضل)(10).
وقال في العدة على إحكام الأحكام: وأحسن ما
تمسك به القائلون بعدم إيجاب حديث أبي هريرة (إن صلاة الرجل في جماعة تفضل صلاة
الفذ بسبع وعشرين درجةً) فإنها لو كانت صلاة الفذ باطلةً لم يفاضل بينهما ؛ إذ لا
مفاضلة بين الصحيح والباطل، وقال ابن القيم: المطلق ما يترتب عليه أثره وهذه قد
فات معظم أثرها ولم يحصل منها على مقصدها؛ فهي أبعد شيء عن الصحة وأحسن أحوالها أن
ترفع عنه العقاب وإن حصلت شيئًا من الثواب فهو جزء(11).
وواضح من كلام ابن القيم أنه إقرار بأن
صلاة المنفرد جائزة وهو المطلوب، وأما زيادة الأجر فهو مسلَّم عند الكل: من يقول
إن الجماعة سنة مؤكدة ومن يقول إنها واجبة.
ثانيًا: ومما استدل به الجمهور على أن
الجماعة سنة مؤكدة، ما ورد في حديث يزيد بن الأسود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكم
نافلة)(12)، فهذا الحديث يدل على أن الصلاة في غير جماعة جائزة وإلا لما أجازها
النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقوله: إذا صليتما في رحالكما دليل واضح على جواز
الصلاة في غير جماعة وأن الجماعة تزيد في الفضل والأجر، ولكن الصلاة في غيرها
جائزة وصحيحة.
ومن ناحية ثانية لو كانت الجماعة واجبةً
لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحاب الرحال أن يصلوا في غير جماعة.
ثالثاً: لو كانت الجماعة واجبةً للصلوات
الخمس لكانت شرطاً لصحتها كالجمعة، والصحيح غير ذلك؛ إذ أن الصلاة يجوز أن تؤدى
صحيحةً في غير جماعة؛ فلا تكون الجماعة بذلك واجبةً؛ إذاً فهي سنة مؤكدة.
قال في الخرشي على مختصر سيدي خليل:
(الجماعة بفرض غير جمعة سنة)(13).
وقال في الهداية: الجماعة سنة مؤكدة لقوله صلى الله عليه وسلم: (الجماعة سنة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلاّ منافق)(14).
وقال الكمال بن الهمام: وما تمسّك به مثبتو
السنة من قوله صلى الله عيله وسلم: (صلاة الرجل في جماعة تفضل على صلاته في بيته أو سوقه
سبعًا وعشرين ضعفًا) فإنه يقضي بثبوت الصحة والفضيلة بلا جماعة.. ثم يقول: ولو كان
مقتضاه الصحة مطلقًا بلا جماعة لم يدل على سنتها لجواز أن الجماعة ليست من أفعال
الصلاة، فيكون مؤثمًا لا مفسدًا(15)اهـ.
* * *
الهوامش:
(1) بداية المجتهد لابن رشد ج1 ص102، 103.
(2) حاشية الخرشي على مختصر سيدي خليل ج2 ص17.
= فتح القدير مع شرح العناية على الهداية ج1 ص 346.
المجموع للنووي شرح المهذب ج4 ص 83، 84، 85، روضة الطالبين ج1 ص 340.
(3) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج2 ص2، كشاف القناع ج1
ص153، بداية المجتهد ج1 ص 102.
(4) المحلى: لابن حزم، ج4 ص188 – المجموع للنووي ج4 ص 77،
صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص 215.
(5) المحلى: لابن حزم ج4 ص 265.
(6) البخاري: ج2 ص271، مسلم: ج2، ص650، موطأ مالك: ج1، ص228.
(7) نفس مراجع رقم(1).
(8) البخاري: ج2، ص275، أبو داؤود/ 559 – الترمذي/ 330.
(9) رواه البزار والطبراني في الأوسط، مجمع الزوائد ج2 ص38.
(10)نيل الأوطار للشوكاني: ج3 ص135.
(11)العمدة على إحكام الأحكام: ج2 ص 137، 138.
(12)نيل الأوطار للشوكاني: ج3 ص 145.
(13)الخرشي: ج2 ص17.
(14)الهداية وشرحها: فتح القدير، والعناية: ج1 ص344.
(15) شرح فتح القدير والعناية على الهداية: ج1، ص344.
شعبان 1430 هـ = أغسطس 2009 م ، العدد : 8 ، السنة : 33